الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم، في ثياب رقاق، وأنه قال لها: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث كما قدمنا، عن ابن كثير أنه قال فيه: قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، وخالد بن دريك، لم يسمع من عائشة، والأمر كما قال، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانًا شافيًا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة الأحزاب ولذلك لم نطل الكلام فيها ها هنا.تنبيه:قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثيرة من أنواع الزينة، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة فأردنا أن نبينها ها هنا تكميلًا للفائدة.أما الكحل والخضاب فمعروفان، وأشهر أنوع خضاب النساء الحناء، والقرط ما يعلق في شحمه الأذن، ويجمع على قرطة كقردة، وقراطن وقروط، وأقراط، ومنه قول الشاعر:
والخاتم معروف، وهو حلية الأصابع. والفتخ: جمع فتخة وهي حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها قص، فهو الخاتم، وقيل: قد يكون للفتخة فص، وعليه فهي نوع من الخواتم، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها، ومن ذلك قول الراجزة، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج: والخلخال، ويقال له: الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم، والمخلخل: موضع الخلخال من الساق ومنه قول امرئ القيس: والدملج: ويقال له الدملوج: هو المعضد، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره، والعضد من المرفق إلى المنكب ومنه قول الشاعر: والسوار حلية من الذهب، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق، وهو القلب بضم القاف.وقال بعض أهل اللغة: إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد؛ لا من طاقين أو أكثر، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام رضي الله عنه: والمسكة بفتحات: السوار من عاج أو ذيل، والعاج سن الفيل، والذبل بالفتح شيء كالعاج، وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، ومنه قول جرير يصف امرأة: قال الجوهري في صحاحه، والمسك بفتحتين: جمع مسكة.وقال بعض أهل اللغة: المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب، ولا الفضة، وقد قدمنا في سورة التوبة في الكلام على قوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} [التوبة: 34] الآية. في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود والنسائي أن المرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابتنها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب الحديث. وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب، كما تكون من العاج، والقرون، والذبل. وهذا هو الأظهر خلافًا لكلام كثير من اللغويين في قولهم: إن المسك لا يكون من الذهب، والفضة، والقلادة معروفة. والله تعالى أعلم.{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.لمّا أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علّم خلقه ما يتداركوه به، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة، وهي الرجوع عن الذنب والإنابة إلى الله تعالى بالاستغفار منه، وهي ثلاثة أركان:الأول: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبّسًا به.والثاني: الندم على ما وقع منه من المعصية.والثالث: النيّة ألاّ يعود إلى الذنب أبدًا، والأمر في قوله في هذه الآية: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا} الظاهر أنهه للوجوب وهو كذلك، فالتوبة واجبة على كلّ مكلّف، من كل ذنب اقترفه، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضًا.وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قد قدمنا مرارًا أنّ أشهر معاني لعلّ في القرآن اثنان.الأول: أنّها على بابي من الترجي أي توبوا إلى الله، رجاء أن تفلحوا، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد، أما اله جل وعلا، فهو عالم بكلّ شيء، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وهو جلّ وعلا عالم بما سبق في الأزل من أنّه لا يتذكر ولا يخشى.معناه: فقولا له قولًا لينًا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى.والثاني: هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أنّ كلّ لعلّ في القرآن للتعليل، إلاَّ التي في سورة الشعراء، وهي في قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] قالوا فهي بمعنى كأنكم، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية، ومنه قول الشاعر: أي كفوا الحروب، لأجل أن نكف كما تقدم.وعلى هذا القول فالمعنى: وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون، لأجل أن تفلحوا أي تنالوا الفلاح، والفلاح في اللغة العربية: يطلق على معنيين:الأول: الفوز بالمطلوب الأعظم، ومن هذا المعنى قول لبيد: أي فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل.المعنى الثاني: هو البقاء الدائم في النعيم والسرور، ومنه قول الأضبط بن قريع، وقيل كعب بن زهير: يعني أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه. وقول لبيد بن ربيعة أيضًا: يعني لو كان أحد يدرك البقاء، ولا يموت لناله ملاعب الرماح، وهو عمّه عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة. وقد قال فيه الشاعر يمدحه، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور: وبكل من المعنيين اللّذين ذكرناهما في الفلاح فسّر حديث الأذان والإقامة: حيَّ على الفلاح كما هو معروف. ومن تاب إلى الله كما أمره الله نال الفلاح بمعنييه، فإنّه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة، ورضى الله تعالى، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره جل وعلا، لجميع المسلمين بالتوبة مشيرًا إلى أنها تؤدِّي إلى فلاحهم في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] أوضحه في غير هذا الموضع، وبيّن أنّ التوبة التي يمحو الله بها الذنوب، ويكفّر بها السيئات، أنها التوبة النصوح، وبيّن أنّها يترتَّب عليها تكفير السيئات، ودخول الجنة، ولاسيما عند من يقول من أهل العلم: إنّ عسى من فضله، فجرده وكرمه تعالى، وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطعمه ربّه في ذلك الفضل يثق، بأنه ما أطعمه فيه، إلا ليتفضّل به عليه.ومن الآيات التي بيّنت هذا المعنى المذكور هنا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [التحريم: 8] فقوله في آية التحريم هذه {يا أيها الذين آمَنُواْ} كقوله في آية النور: {أَيُّهَا المؤمنون} [النور: 31]. وقوله في آية التحريم: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [التحريم: 8] كقوله في آية النور {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] لأنَّ من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة، فقد نال الفلاح بمعنييه، وقوله في آية التحريم: {توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] موضح لقوله في النور {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا} [النور: 31] ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم، وحثّ على امتثال الأمر، لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والرجاء المفهوم من لفظه عسى في آية التحريم، هو المفهوم من لفظه لعل في آية النور كما لا يخفى.تنبيهات:الأول: التوبة النصوح: هي التوبة الصادقة.وحاصلها: أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح، بأن يقلع عن الذنب إن كان متلبسًا به، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربّه جل وعلا، وينوي نيّة جازمة ألاّ يعود إلى معصية الله أبدًا.وأظهر أقوال أهل العلم أنه تاب توبة نصوحًا وكفر الله عن سيئاته بتلك التوبة النصوح، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك؛ أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب، لا يبطلها الرجوع إلى الذنب، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد خلافًا لمن قال: إنّ عوده للذنب نقض لتوبته الأولى.الثاني: اعلم أنّه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنبن والإقلاع عنه، إن كان متلبسًا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة، وكلّ واحد منهما فيه إشكال معروف. وإيضاحه في الأول الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلًا، وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أنّ الله لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدًا بشيء إلا شيئًا هو في طاقته كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].وإذا علمت ذلك فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلًا تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلًا، وليس في وسع المكلّف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا يطاق كما بيَّنا. قال في مراقي السعود: وقال أيضًا: واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجواز العقلي، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه.أما وقوعه بالفعل فيهم مُجْمعون على منعه كما دلّت عليه آيات القرآن، والأحاديث النبويّة، وبعض الأصوليين يعبّر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلًا أو لا؟ أمّا وقوع التكليف بالمحال عقلًا، أو عادة، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلًا، ومثال المستحيل عقلًا أن يكلّف بالجمع، بين الضدّين كالبياض، والسواد أو النقيضين كالعدم والوجود. والمستحيل عادة كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ونحو ذلك. فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعًا.وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنّه لا يقع فهو جائز عقلًا، ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلًا كان الله عالمًا في الأزل، بأنه لا يوجدن لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلًا، وذلك مستحيل في حقه تعالى. ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلًا، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلًا لما كلّفه الله بالإيمان، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فالإيمان عام، والدعوة عامة والتوفيق خاص.
|